عثمان غندور، ابن بيروت، الذي ألِف البحر منذ نعومة اظافره، اتخذ من شاطئ عين المريسة ملاذاً له يزوره يومياً.
والدته اكتشفت فيه حب البحر، فبدأت في تعليمه فن العوم، بداية في البرك الصغيرة وبعدها في المياه العميقة متحدياً البحر في كل فصوله.
بعدما تسلّح غندور بالقدرة على العوم، صار لا يخشىالسباحة لمسافة طويلة، وكان خلال تمارينه يقترب من البواخر التي تنقل البطيخ من فلسطين الى لبنان، طمعاً في الحصول على بطيخة "مكافأة" من القبطان. وحين بلغ السادسة عشرة من عمره قطع غندور المسافة بين مسبح عجرم والحمام الفرنسي الذي كانت ترتاده الشخصيات الهامة.
في إحدى المرات، وبعد دخوله الى حوضه خلسة شاهده أحد المسؤولين هناك، ويدعى رشاد أرناؤوط فأقنعه بالانضمام الى فريق النادي، بعدما لمس فيه موهبة غير عن كل المواهب التي خبرها. من وقتها صار غندور يتردد على الحمام العسكري ويتعلم أصول السباحة وفنونها، فأدرك أن السباحة الحقيقية ليست بقوة ضرب الماء بالأيدي والأرجل، بل بالتوازن وانتظام تحريك الجسد، والليونة والمرونة.
انضم غندور في بدايته الى نادي "بي.دي.دي" وشارك في سباقات المسافات القصيرة ١٠٠ و ٢٠٠م، قبل أن يوقع على كشوفات نادي أبناء نبتون. وكانت أول مشاركة له في بطولة بيروت عام ١٩٤٢، وكان السباق في المئة متر حرة للرجال، واستطاع حينها أن يحتل المركز الثاني خلف محمد مأمون وتقدم على المخضرم مورياس.
أولى مشاركاته الخارجية كانت عام ١٩٤٨، بدعوة من نادي التوفيقية في مصر، واقتصرت المشاركة على سباق البدل.
تقرّب غندور من عمر محجوب بعد انتقاله من أبناء نبتون الى الدنافيل، وشارك في محاولة لقطع المسافة بين بيروت وجونية، وشاركه فيها ابراهيم عيتاني ومحمد مأمون وسباح أجنبي كان مقيماً في لبنان يدعى تشكيافي، ونجح غندور في الفوز بالسباق.
سمع غندور بخبر قطع القيسي المسافة ما بين صيداوبيروت، والبالغة نحو ٤٠ كلم، فأراد اثبات نفسه، ووضع إسمه بين سباحي المسافات الطويلة، وأصر على أن يجرب بنفسه خوض غمار هذه المنافسة. وفي يوم السباق قام الدكتور بشارة دهان بوضع مادة الفازلين على جسمه بدل الشحم الذي كان يستخدمه السباحون، وأعطى عبد الودود رمضان إشارة الانطلاق، ولكن المحاولة لم يكتب لها النجاح بسبب الأمواج العاتية التي هبت في ذلك اليوم.
عام ١٩٥١ سافر غندور الى أستراليا وانضم الى نادي بانداي بيتش في سيدني، وكان يتدرب كل سبت وأحد من كل أسبوع في حوض النادي القريب من الشاطئ، ثم انتقل الى نادي "انفيلد" القريب من المدينة التي يقيم فيها، وهناك عاد للمران في الحوض الذي كان شبيها بحوض المدينة الرياضية القديم وطوله ٥٠م، ثم صار يتدرب بمعدل ساعتين يومياً، وأطلق عليه أعضاء النادي هناك لقب "سباح المانش" لما عرفوا أنه بطل للمسافات الطويلة. شارك هناك ببطولة استراليا باسم ناديه انفيلد لمسافة ٥٠م، وفاز باللقب وسط دهشة الحضور، ولم يشارك في سباق الـ١٠٠م لشعوره بالتعب، بينما شارك بسباق الـ٢٠٠م بعد راحة قصيرة استرد خلالها أنفاسه، ونجح في إحراز اللقب.
ذات يوم من عام ١٩٥٢ تسلّم غندور رسالة من ابن عمته سهيل سنّو يخبره فيها أن النائب اميل البستاني يعتزم إرسال سباحين اثنين من لبنان للمشاركة في سباق المانش على نفقته، وكلف البستاني الاتحاد اللبناني للسباحة أن يختاروا السباحين، فكتب غندور رسالة الى البستاني عرّفه فيها بنفسه ورجاه التريث في الاختيار الى حين عودته الى لبنان.
وبعد وصوله اتصل بعمر محجوب الذي أخبره أن اتحاد السباحة ينوي اقامة سباق صيدا ـ بيروت وسيسمي الأول والثاني للمشاركة في سباق المانش، وشارك في هذا السباق الذي أقيم يومي ٢ و٣ آب، كل من محمد حفار، راتب العوف، نقولا غبريال، توفيق بليق وعبد الرحمن شاتيلا فضلاً عن غندور، وبعد الإقامة يوماً واحداً في فندق طانيوس الذي أشيد مكانه ملعب صيدا البلدي، بدأ السباق الساعة العاشرة ليلاً، ووصل غندور الى السان سيمون مع طلوع الفجر وفوجئ بتيار لدى مروره بصخرة الروشة ثم وصل الى الحمام العسكري محتلاً المركز الأول ومبتعداً عن بقية المتسابقين مسجلاً وقتاً قدره ١٠ ساعات و٣٢ دقيقة. وهذا الرقم القياسي ما زال في حوزة غندور حتى اليوم، وقد حلّ بليق ثانياً وغبريال ثالثاً وشاتيلا رابعاً بينما انسحب الحفار وعوف.
بعد زيارات عدة لمكتب كميل شمعون الذي كان محامياً آنذاك، واميل البستاني، قام بها غندور وبليق ومحجوب، وعد البستاني غندور وبليق بايفادهما الى انكلترا.
وأمن البستاني كل ما يلزم للسباحين بليق وغندور في انكلترا حيث نزلا في فندق روديسيا في مدينة فولكستون المطل على المانش.
شارك غندور وبليق في محاولة للسباحة في المانش لمسافة ستة أميال، وكانت ضد التيار. وأخبر المستر فلويد وهو أحد المسؤولين عن سباقات المانش، أنهما وصلا متأخرين لأن الطقس يزداد سوءاً، ونصحهما بزيادة وزنهما بأكل المزيد من الدهون ليكونا قادرين على مقاومة البرد القارس، مع المواظبة على التمارين صيفاً وشتاء. وبعد العودة الى بيروت كان تصميم غندور وبليق أكبر على تكرار التجربة وقطع المانش، فكانت تمارينهما اليومية منتظمة تحت إشراف عمرمحجوب.
قبل التجربة الثانية، فتح سعيد فريحة اكتتاباً في مجلته "الصياد" لمدة أسبوعين، وشارك فريحة والبستاني فيه بأكبر مبلغين، كما شاركت وزارة التربية الوطنية وعدد من الأشخاص الذين كان فريحة قد اتصل بهم. وكلف فريحة انطوان متري برئاسة البعثة وعمر محجوب مدرباً. وسافرت البعثة الى انكلترا في السابع من حزيران عام ١٩٥٣، وبدأت التمارين في مسبح فولكستون، ثم انتقل السباحان الى مياه المانش للتدرب فيها.
في أوائل شهر آب ذهب غندور لزيارة أحد أقاربه في لندن، وحين عاد في المساء علم أن زميله بليق ذهب الى فرنسا لعبور المانش بعدما أعلمته دائرة الأرصاد الجوية أن الطقس سيكون ملائماً للمحاولة.وبعد يومين كانت المحاولة الأولى لغندور لقطع المانش من فرنسا الى انكلترا، وفي الساعة السادسة صباحاً تغير مجرى التيار وهبّت الرياح وارتفعت الأمواج، وبعد ثماني ساعات من السباحة المتواصلة، اقتنع غندور بالانسحاب من السباق.ونقلته سيارة الاسعاف الى الفندق في فولکستون جراء التعب الذي أصابه. وفي ذلك اليوم التقى غندور بالسباح المصري الشهير المرحوم عبد اللطيف أبو هيف وهو يقوم بمحاولته الناجحة لقطع المانش من انكلترا الى فرنسا.
وبعد أسبوع كانت المحاولة الثانية لبليق لقطع المانش، ولم يشارك غندور بسبب التعب الشديد الذي نال منه، وكان الطقس جيداً فنجح بليق في محاولته مسجلاً وقتاً قدره ١٦ ساعة و ٥ دقائق.استمرت تمارين غندور لمحاولة قطع المانش في اليوم التالي، آملاً في أن يكون الطقس جيداً. وبدأت المحاولة الساعة السادسة صباحاً بخلاف المحاولات السابقة التي كانت تبدأ الساعة ١٢ ليلاً.ولأن غندور لم ينم طوال ٣٠ ساعة فإنه شعر بالنعاس، وفقد كل قواه، حين صارت الساعة السادسة مساء وصل الى بعد كيلومتر واحد عن فولكستون على الشاطئ الانكليزي، وبعد ١٥ ساعة من السباحة المتواصلة اشتدت سرعة الرياح وصار التيار أقوى، فأخبره الدليل المرافق أنه بدأ في الرجوع الى الوراء، وبات غندور يصارع المدّ والجزر على غير طائل، وتذكر عندها السباح المصري فهمي عطاالله الذي انسحب، وهو على بعد ٤٠ م من الشاطئ ومنعه التيار من التقدم متراً واحداً. وبعد صراع مع الموج طال لأكثر من ٦ ساعات، انسحب غندور مرة أخرى.
مع حلول فصل الشتاء في انكلترا تبخر أمل غندور في القيام بمحاولة ثالثة وقرر العودة الى لبنان. وأجرى الاتحاد اللبناني تجربة للسباحين اللبنانيين لاختيار من يمثل لبنان في المانش وأعلن إجراء تصفية لسباحة مسافة ٣٨ كلم. وعلم غندور أن فريحة يعتزم إرسال سباحين الى انكلترا هما بليق وغبريال الذي انسحب من التصفية بعد ٤ ساعات. وأعلن فريحة أن البعثة ستتألف من بليق وغندور وغبريال. وسافرت البعثة الى فولكستون، وبدأت التمارين في بحر المانش، وقبل يومين من السباق نصح أحد الإداريين المصريين غندور باحتساء "الروم" (مشروب كحولي) لمساعدته على مضاعفة الجهد والدفء، ولكن المشرف عليه ديهان نصحه بعدم شربه ما لم يكن معتاداً عليه، وخلال السباق احتسى غندور قليلاً منه فشعر بالدفء ثم عاد وطلب أن يشرب كمية أكبر، بعدما صار قريباً من الشاطئ اشتدت التيارات المائية، فطلب ان يشرب كمية أكبر لمقاومة هذه التيارات، فأصيب بسكر شديد، وأخذ يسبح بلا وعي، فرفعه البحارة من الماء وقد ظنوا أنه مصاب بالعياء، ونقل الى مرفأ فولكستون للمعالجة. وكان بليق قد انسحب من السباق بعد قطعه مئة متر من المرفأ الفرنسي، كما انسحب غبريال بعد قطعة أميالاً قليلة. وبقي غندور طريح الفراش خمسة أيام حتى استعاد وعيه ونشاطه وعاد الى بيروت.
قرر غندور المشاركة للمرة الرابعة في سباق المانش عام ١٩٥٩، واتصل برئيس اتحاد السباحة لويس باز، وقرر السفر على نفقته الخاصة، ودفع ٥ آلاف ليرة بعدما تخلى جميع المسؤولين عنه، وكان وفيق العجوز وحده قد وعده بتقديم ألف ليرة لدى عودته.وبعد التزامه بكافة الإرشادات والتوجيهات، وبعد عدة تمارين خاصة خاض غندور هذا السباق العصي وكله ثقة وعزيمة وإصرار على قهر المانش، وهذه المرة عاد غندور مكللاً بالغار بعدما فك النحس الذي لازمه محققاً حلمه الكبير. الطريف في الأمر أن الدليل المرافق له خلال السباق قال له انه يتوقع أن يقطع المانش بـ١٦ او ١٧ ساعة، ولكن غندور تفوق غلى نفسه وقطع المسافة بـ١٢ ساعة و ٥ دقائق وهو أفضل رقم للبنان.
عند عودته كان غندور أول النازلين من الطائرة في بيروت، وكان في استقباله على سلم الطائرة وفيق العجوز، ودخل غندور صالون الشرف، واستقبله جمهور كبير خارج المطار.
البطاقة
الاسم: عثمان بدر غندور.
تاريخ الولادة: ١٩٢٦/٢/٢٧.
الطول: ١.٦٧م.
الوزن: ٧٢ كلغ.
النادي: الجزيرة.
الوضع العائلي: متأهل من نهاد الشويكي وله ٣ أولاد وبنت.
أفضل سباقاته: سباق النيل الثالث والمحاولة الرابعة لسباق المانش.
أسوأ سباقاته: المحاولة الثالثة حين انسحب وهو قريب من الشاطئ عام ١٩٥٤.
حادثة طريفة: قبل محاولته التي نجح فيها بقطع المانش، جرب المشاركة في محاولة دعا اليها أحد الأثرياء الانكليز، وانقلب الطقس من جيد الى سيئ قبل انطلاق السباق بقليل، وقعت آلة اللاسلكي على رأسه وهو مستلق في المركب الذي كان ينقله الى الشاطئ الفرنسي، ورغم ذلك صمم غندور علىالمشاركة في السباق، وخلال انتقاله بالزورق الصغير الى مكان الانطلاق هبت عاصفة وقلبت المركب وضاعت الأغراض ومنها الأكل والشحم والمناشف والكليكوز في البحر. ورفض المرافق اخذه الى نقطة الانطلاق، وعاد غندور وهو يشعر بالخيبة، وفي اليوم الثاني أخبروه أن كثيرين من المشاركين انسحبوا بسبب الطقس السيء، وأن مركب القيادة الرئيسي قد انقلب وكان فيه راعي السباق السيد باتلن الذي عاد الى الشاطئ بثيابه المبللة.